مقالي اليوم يُسلطُ الضوءَ على أداةٍ أهم من كل الأدوات التقنية بكثير ألا وهي أهمية العلاقات غير الرسمية في إدارة الأزمات. ففي هذه الأوقات تكون الحاجةُ ماسة إلى عقلياتٍ تتبنى حلولًا غيرَ تقليدية أهمُ سماتها استحضار المسؤولية الجماعية في العمل الجاد من أجل تخفيف الشعور بالعزلة، خصوصًا مع تزايد الأشخاص الذين يعملون عن بُعد بسبب الجائحة.
في هذا الوقت العصيب يجبُ التركيز على ربطِ الناس أكثرَ من أي وقتٍ مضى، وذلك مثلًا عن طريق خلق بيئةٍ للتفاعلات غير الرسمية بين الموظفين وتسخيرها للمساهمة في مد الجسور وردم فجوة التواصل الناتجة من أزمة كورونا. لذلك يجب أن يكون المقصود من «التباعد الاجتماعي» هو «التباعد المكاني» فقط دون المساس بجوهر التواصل الفعلي الذي يقوم عماده على العلاقات غير الرسمية.
رغم مرور عامٍ كاملٍ على ظهورِ أول إصابة بفيروس كورونا المستجد في العالم، لا تزال هناك حاجة ملحة للتكيّف والتعايش مع الوضع الناشئ ومواكبة التغييرات بما يضمن استمرارية الحياة. ولا نخفي سرًا إذا قلنا أن هذا الأمر ينسحبُ على جميع مناحي الحياة بما فيها تلك التحديات غير المسبوقة التي تواجهها الشركات الخاصة والمؤسسات العامة على حدٍ سواء.
أهمُ هذه التحديات هي تلك الناشئة بسبب القيود الاجتماعية التي فرضها انتشار الفيروس والحاجة إلى التحول إلى سياسات العمل من المنزل.
هذه السياسات رغم كونها بديلًا ناجحًا عن الإغلاق الاقتصادي التام إلا أنها تحملُ في طياتها كلفةً عاليةً سببها الرئيسي تفكك العلاقات المباشرة بين الموظفين وبالتالي ظهور فجوات في التواصل بينهم. نُحاول في هذا المقال أن نُركزَ على هذا التحدي الذي لازمَ الجائحةَ منذُ ظهورها، وكيفية إعادة خلق التواصل والتفاعلات اليومية في بيئة العمل رُغم التباعدِ الاجتماعي.
لقد كشفت أزمةُ كورونا عن حقيقةٍ مُرةٍ أن البشرية لم تكن على استعدادٍ كافٍ لمواجهة الوباء. وذلك ربما يعود – بحسب قوانين الاحتمال الرياضية – إلى كون الجائحة حادثًا عرضيًا لا يحدث إلا نادرًا بنسبةٍ ضئيلةٍ للغاية تجعلُ منه أمرًا هامشيًا في سُلم الأولويات.
لكن رغم صحة هذا التقدير يفشل الكثيرون في إدراك مدى هول العواقب التي يمكن أن تنتج من هذه الأحداث الهامشية في حال وقوعها. في مثل هذه الأزمات تجابه البشرية عدةَ تحدياتٍ أهمها ضرورة اتخاذ قرارات سريعة في ظل وجود معلوماتٍ ناقصةٍ/غير كافية. وفي الواقع فإن هذا التحدي يتفاقم كلما قلّ التواصل المباشر بين الناس؛ لأن الحصول على المعلومة حينها يكون أمرًا صعبًا ومُكلفًا.
البعض ربما سيعتمد على الأدوات التقنية الحديثة للتواصل، مثل برامج: زووم، ميكروسوفت تيمز وغيرها، ولكن هذه الأدوات غير كافية لتحلَ محل التواصل المباشر. وخيرُ مثالٍ على ذلك أنه في عام 2009م قررت شركة IBM – المتخصصة في مجال تصنيع وتطوير الحواسيب والبرمجيات – أن تجعل 40% من موظفيها يعملون عن بُعد بقصد توفير النفقات التشغيلية إلا أن هذا القرار باء بالفشل وانخفضت خلالها الإنتاجية والدخل بشكل ملحوظ مما أدى إلى إلغاء هذا القرار لاحقًا في عام 2017م.
يوجدُ الكثيرُ من الدراسات التي تؤكد على العلاقة الايجابية بين التفاعلات غير الرسمية وانتاجية العمال والعمل ككل. فمثلًا وجدت شركة الأبحاث Maven7 (وهي شركة متخصصة في تحليل الشبكات التنظيمية) أن وكلاء التغيير يمكنهم من تسريع تنفيذ المشاريع بنسبة تصل إلى 15٪ داخل الشركة عن طريق التأثير الاجتماعي، وذلك بزيادة مشاركة الموظفين بنسبة 20-30 ٪.
كما يمكنهم أيضاً خفض كلفة الاتصال بنسبة 10-15٪ بسبب قدرتهم في تعزيز التغيير والتأثير بشكل مباشر على عدد كبير من الموظفين. في مقالات متعددة نُشرت في Harvard Business Review تم أيضًا تسليط الضوء على أهمية العلاقات غير الرسمية في بيئة العمل كسرٍ من أسرارِ العمل الجماعي، وتقديم مقترحات للمدراء لخلق هذه التفاعلات عن طريق ما يُطلق عليه «الوقت غير المنظم» أو«الوقت المستقطع». وهي عبارة عن خلق نقاشات للحديث عن أمورٍ لا تتعلق مباشرة بالعمل.
يقول تسيدال نيلي في مقاله «تواصل بشكل أفضل مع فريقك» أن الكثيرين يعتبرون فكرة الوقت المستقطع نوعًا من أنواع الهدر في الموارد، ولكن من خلال الدراسات العلمية تم إثبات قدرة هذا النوع من النقاش على تحسين علاقات العمل وتطويرها، مما ينعكس إيجابًا على نتائج العمل وفعاليته.
كما أشارت دراسة البروفيسور أليكس بنتلاند من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إلى أهمية التفاعلات غير الرسمية؛ لأنها تزيد من المعرفة الضمنية المشتركة وتساهم في تشكيل عادات العمل وتعزيز الدعم الاجتماعي والتماسك بين أفراد الفريق. ختامًا، لا يُمكن للمؤسسات حصد هذه النتائج الإيجابية إلا عن طريق معرفة الموظفين المؤثرين اجتماعيًا، وأن تكون هذه المؤسسات قادرةً على استغلال التأثير الاجتماعي في خلق شبكات التفاعلات غير الرسمية.
تُساعدُ أدواتُ التحليلِ الشبكي أو التنظيمي في رسمِ وفهمِ العلاقاتِ الرسميةِ وغيرِ الرسميةِ بين الموظفين، وبالتالي تحديد الأشخاص المؤثرين داخل المؤسسة. أصحاب التأثير الاجتماعي هم عادةً أولئك الموظفون الأكثرَ ثقةً، الذين يلجأ إليهم الآخرون – بغض النظر عن مناصبهم الوظيفية – للحصول على المشورةِ والدعمِ في أوقاتِ التغيير والأزمات. هم الأكثر ارتباطًا بالآخرين عن طريقِ تكوينِ شبكةٍ من العلاقاتِ غير الرسمية.
هم الأكثرُ شُهرةً بين أقرانهم لقدرتهم على إلهام وتحفيز الآخرين والتعبير عن آرائهم. يلعبُ هؤلاء الأفراد دورًا رئيسيًا في إحداثِ تغييرٍ جوهري عن طريقِ نشرِ سلوكياتٍ جديدةٍ وتبني سياساتِ عملٍ مختلفةٍ، بالإضافة إلى قدرتهم على التواصلِ بشكلٍ أكثر فعاليةٍ مع أكبرِ شريحةٍ ممكنةٍ من الموظفين.
من المنظور الشبكي، يُسمى هؤلاء بوكلاء التغيير لما لهم من تأثيرٍ بالغٍ على المنظومة بشكلٍ عام. تؤثرُ قيمُهم ومواقفُهم وأنشطتُهم على سلوكيات ومبادئ الآخرين من حولهم، الأمر الذي يُمكنهم من امتلاك القدرة على تكييف وإعادة صياغة المشهد العام في بيئة العمل وخلق تصورات ومخرجات عمل جديدة.
في عصر العمل عن بُعد، تلعبُ العلاقاتُ غيرِ الرسميةِ دورًا محوريًا في تعويض النقص الحاصل في التواصل المباشر، خاصةً عندما تتسبب أزمة مثل جائحة فيروس كورونا في إحداثِ تغييرٍ تنظيميٍ لطريقةِ سيرِ الأعمال. الابتعاد عن أماكن العمل لا يسبب ابتعادًا جسديًا فقط وانما قد يؤدي إلى الإحساس بالعزلة الاجتماعية والمهنية.
العلاقات الإنسانية بين الموظفين والتي تنمو من جراء التفاعلات واللقاءات اليومية وجهًا لوجه في أماكن العمل المختلفة تُعتبرُ مصدر إثراء وتعزيزًا للتعاون المشترك وتبادلًا المعلومات. فمثلًا المحادثة الخاطفة في الممر أو عند مبرد المياه، أو عند الإعداد لفنجان قهوة في مطبخ المكتب أو المحادثة الودية على الغداء، أو طرقة الموظفين على باب رئيسهم مع دردشة سريعة، كلها أمور لا يمكن أن تحدث ببساطة في العالم الرقمي دون التواصل وجهًا لوجه.
لذلك يبقى السؤال الملح في زمن كورونا هو – كيف يمكن إنشاء «تأثير مبرد الماء» (تعبير رمزي يستخدمه علماء السلوك التنظيمي ليُشيروا إلى التواصل الاجتماعي الذي يحدث غالبًا عن طريق الصدفة في غرفة الاستراحة في المكتب أو بالقرب منها بهدف التعرف على الآخرين وتبادل أطراف الحديث).
لا ينحصرُ مفهومُ التواصل الفعّال فقط على إمكانية الوصول للفرد على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع – عن طريق زووم أو ميكروسوفت تيمز على سبيل المثال، وإنما يمتدُ ليشملَ إمكانية مشاركة المعلومات بشكل استباقي مع بعضنا البعض نحو تحقيقِ هدفٍ مشتركٍ وبما يضمنُ سير العمل وتعزيز شعور الاندماج والشراكة أمام تحدي العُزلة المكانية.
في العالم الافتراضي، لا يكفي إنشاء منظومة عمل رقمية والحفاظ عليها من خلال شبكة تواصل رسمية، وإنما من المهم أيضًا أن يتفاعل الموظفون ويتعاونون مع بعضهم البعض على أساسٍ يوميٍ من خلال الشبكاتِ غيرِ الرسميةِ، وبالأخص من خلال الأشخاصِ المؤثرين في هذه الشبكات.
تُعزى هذه النتيجة إلى عدة أسباب منها أن أدوات التواصل الرقمية:
- تفتقر إلى التواصل وجهًا لوجه وتُخفي لغة الجسد اللازمة لبناء الثقة أو إظهار الدعم والتعاطف مع الآخرين.
- تجعل المشاعر أقل وضوحًا مما يجعل الترابط الاجتماعي بين الموظفين أكثرَ هشاشةً. مثلًا صعوبة الاحتفال بعيد ميلاد أحد الزملاء أو بإنجاز صفقة عمل عن طريق البرامج الرقمية.
- تقلل من فرص التعلم الاجتماعي المشترك والمهارات غير الملموسة، مثلًا ملاحظة السلوكيات التي يتبناها الآخرين من أجل إنجاز العمل.
- تزعزع شعور الانتماء إلى الجماعة والفريق الواحد بسبب الافتقار إلى الخبرات والقصص المشتركة.
- تقلص مساحة الالتقاء غير الرسمي وبالتالي تحدُّ من الأحاديث الجانبية القصيرة التي يتم فيها مشاركة المعلومات وطرح الأسئلة بشكل أكثر أريحيةً وانفتاحًا.
كتبت ـ د. هدى المدحوب
منسقة برنامج العمارة بقسم العمارة والتصميم الداخلي بجامعة البحرين