سيدة أعمال وفنانة. هل هناك تناقض بين الأمرين؟ لمَن لا يعرف تلك الثنائية ولم يجربها يبدو الأمر على شيء من الغرابة لصعوبة التوفيق بين عملين يتطلب كل واحد منهما تفرغًا خاصًا به. ولكن الأمور تبدو ليست كذلك بالنسبة إلى شخص وجد نفسه في سن مبكرة يخوض مغامرة الجمع بين الاثنين.
الفنانة البحرينية نبيلة الخيّر هي ذلك الشخص النادر. فهي التي أحبت الرسم في سن مبكرة ولم تدرسه أكاديميًا إلا بعد سنوات من تخصصها نجحت في وقت قياسي أن تقيم صلحًا داخليًا ما بينه باعتباره نشاطًا خياليًا وبين حرفتها التي تعبر عن نشاطها العملي.
غير أن المسافة لم تكن شاسعة بين الهواية والحرفة. لقد انصب اهتمام الخيّر في حياتها العملية على التصميم الداخلي. لذلك كانت العلاقة منسابة بين حياتيها. تلك العلاقة قلصت الزمن الذي استغرقته نبيلة من أجل أن تنتقل من الهواية إلى الاحتراف في الرسم. فبعد مشاركات عديدة في معارض جماعية جاء معرضها الشخصي الأول ليعلن بدء مرحلة جديدة في مسيرتها الفنية.
رسوم ترقى إلى المديح
انتقل بها ذلك المعرض إلى مرحلة الاحتراف وهو ما يناسب الجهد الكبير الذي بذلته وهي تتعلم أسرار الرسم، تقنياته ومواده إلى جوار ما بذلته من اهتمام على مستوى الثقافة الفنية التي جعلتها على اطلاع على تاريخ الفن الحديث، مدارسه وأساليبه وتحولاته وكبار رواده.
سيدة الأعمال الناجحة صارت رسامة محترفة من طراز رفيع. وإذا ما كانت الخير قد اجتهدت في التمكن من اللون لتصبح في ما بعد ملونة متمكنة فإن ميلها إلى موضوعات بعينها جعلها محكومة باستعمال ألوان قليلة هي التي كثر ظهورها في أعمالها.
بحر الخير لا يشبه أي بحر آخر. إنه البحر الذي عاشت إلى جواره منذ طفولتها. وهو ما نراه في لوحاتها ساكنًا وصاخبًا مثلما رأته ومثلما حلمت به.
وإذا سألتها فإنها لا تزال تجد في بشرة النساء السوداء جمالًا خاصًا. لقد وضعت كل ثرائها اللوني هناك. تحت البشرة السوداء. ولو أنها عادت اليوم إلى مرحلتها التشخيصية لما ترددت في استعادة معادلاتها اللونية السابقة التي كان عنوانها “النساء”.
ولو خيرت الفنانة بين موضوعات مختلفة لترسمها فإنها ستختار المرأة موضوعًا لها من غير تردد. فهي من خلال ذلك الموضوع تتحرر من الواقع النسبي لتشتبك بالمطلق الذي تمثله المرأة في مختلف تحولاتها وإن غلب الوصف على رسومها فلأنها لا تخفي إعجابها بالمرأة البحرينية من جهة وقع تأثيرها على المجتمع. رسومها هي بمثابة مديح مستمر لتلك المرأة وهي تستعرض أنوثتها من خلال ثيابها.
التراث بعيون النساء
فنانة وضعت كل ثرائها اللوني تحت البشرة السوداء
ولدت الخير في المنامة ودرست المحاسبة في جامعة الكويت. بعدها درست الرسم في كلية سليد بلندن كما أنها انضمت إلى دورات فنية في باريس وجنيف.
وفي البحرين كانت على صلة مباشرة بكبار الرسامين هناك حيث استفادت من خبراتهم المتراكمة.
أقامت معرضها الشخصي الأول في جمعية الفنانين التشكيليين عام 2002. بعد ذلك المعرض أقامت معارض عديدة في البحرين. عام 2003 نالت جائزة السعفة الذهبية في مهرجان القرين الثقافي بالكويت.
ركزت في السنوات الأولى من تجربتها الفنية على استلهام مفردات التراث البحريني من خلال معالجتها لموضوعة المرأة. حليها وثيابها وطقوسها الاحتفالية. وكان ولعها برسم النساء قد ساعدها على الوصول إلى قيم شكلية كونت في ما بعد مسار أسلوبها الشخصي الذي ظلت حريصة على تطويره لكن من غير أن تغادر المنطقة الجمالية التي سحرتها “المرأة باعتبارها كنزا من المشاعر والرؤى والقوى التي تنبعث من خيال عميق”.
ولم يكن ذلك الموضوع ليأسرها في منطقة شكلية ضيقة. كانت المرأة بالنسبة لها عالمًا واسعًا لا حدود له. لذلك تغيرت أشكالها وتعددت تقنياتها وتنوعت أفكارها وهي تسعى إلى الكشف عن جماليات ذلك العالم. رسمت الخير المرأة باعتبارها مصدر إلهام وليس من أجل التعريف بها أو الاحتفاء بجمالها الذي تراه الفنانة من الداخل.
تتداخل في تجربة الفنانة محاولتها الكشف عن مواقع جمالية في المرآة لا تصل إليها إلا امرأة ومحاولتها استلهام المفردات الجمالية التراثية التي تتصل بحياة المرأة في جانبيها، الخفي والمعلن. محاولتان مزجت بينهما الفنانة لتطل من خلال ذلك المزيج على عالم أحبته ونجحت في أن تهبه سمات شخصية ستشكل في ما بعد عناصر مهمة في أسلوبها. ذلك عالم ستستغرق فيه الفنانة لسنوات وهي تسعى إلى استخراج مفردات ستستعملها بطريقة خاصة لا تذكّر بوجودها الواقعي ولا تحيل إليه.
الوداع من شرفة الحنين
عام 2009 أقامت نبيلة الخير معرضها الشخصي الثالث بعنوان “شرفة الحنين”، كان ذلك المعرض بمثابة تلويحة وداع لعالمها القديم. لذلك كان كل شيء مختلفًا. لقد أخرجت نساءها من عالمهن الذي عشقته ورأتهن من خلاله غير أنها صارت تنظر إليه باعتباره ماض.
شهد ذلك المعرض تحولًا أسلوبيًا لافتًا. لم يعد الوصف فيه قادرًا على إشباع رغبة الفنانة في أن تتعرف على عالمها أو التعريف به. يومها صارت تنظر إلى ذلك العالم من بعيد بعد أن كانت تعتبر نفسها جزءًا منه. هل صارت تتحداه لكي لا تكون مجرد شاهدة؟
شيء من ذلك القبيل سيكون بابًا ينفتح أمامها على عالم ستجد سحره في لغة البحر. تلك اللغة التي تعرف كيف تتسلل إلى ثغراتها. كانت على موعد قديم مع التجريدية. ذلك تحول استغرق سنوات، غير أنها كانت سنوات من البحث الفني اللذيذ الذي أخرجها من عالم صار يحيط بها من كل جانب إلى عالم فتح أمامها الطريق إلى المجهول. ذلك المجهول الذي سبق أن تعرفت عليه عن طريق الحدس. سترى الخير من شرفة الحنين عالمًا يصل إلى البحر
البحر لها ولنسائها
نساء الرسامة أصبحن جزءًا منها
أين يقع ذلك البحر الذي تلعب الفنانة بألوانه؟ إنه البحر الخفيف والناعم. بحر طفولتها الذي هو عبارة عن مزيج من الأصوات والأحلام والتجليات التي يسبق بعضها البعض الآخر إلى خيالها الشخصي. ليس هناك شكل بعينه يمكن الإمساك به لكي يكون ذلك البحر حاضرًا. كان على الفنانة أن تجري تمارين على الإنصات إلى الإيقاع. وهو إيقاع يأتي ممتزجًا بسؤال وجودي يتعلق بالمطلق الذي لم تنتقل إليه الفنانة إلا بعد أن أنهت احتفالها بالمرأة.
ألم تكن المرأة هي الأخرى بحر؟ بالنسبة للخير فإنها كانت مسكونة بالبحر قبل أن تدخل في خصامها الفكري مع العالم. كان لديها ما تقوله للبحر ومن خلاله. صورته التي تجلت أخيرًا في أعمالها رافقت حياتها وهي ابنة جزيرة صغيرة وكانت أحلامها تتلون بأمواجه. ربما أجّلت رسمه من أجل أن تفهم شيئًا من أسرار صورته وهي التي تعرفت على رسوم أشهر الفنانين الذين رسموه. لقد رغبت في أن ترسم بحرها.
وهو بحر لا يشبه أي بحر آخر. إنه البحر الذي عاشت إلى جواره منذ طفولتها. سنراه في لوحاتها ساكنًا وصاخبًا مثلما رأته ومثلما حلمت به.
لقد اهتدت من خلاله إلى طريق انتقل بتجربتها الفنية من موقع إلى آخر. من التشخيصية إلى التجريدية كان عليها أن تستعيد المشاهد التي عاشتها عبر سني حياتها. هي اليوم تتعرف على نفسها من جديد. ولكنها أيضًا تتعرف على نسائها اللواتي صرن جزءًا منها. هل أغرقتهن في بحرها؟ البحر لها ولهن أيضًا. إن تاريخها الشخصي كله يقيم هناك. نبيلة الخير ترسم لتستلهم جمال المرأة البحرينية وإيقاع البحر معًا.